تبلورت عند الشيعة الإمامية نظريات فقهية في الفكر السياسي وأهمها :
الأولى : ولاية الفقيه ( نائب الإمام ) عند الإمام الشهيد الأول قدس الله نفسه الزكية .
والثانية : ولاية الأمة على نفسها لذرية الشهيد الأول الفقيه آية الله العظمى الشيخ محمد مهدي شمس الدين قدس سره .
نظرية ولاية الفقيه عند الشهيد الأول الإمام الشيخ شمس الدين محمد بن مكي قدس الله نفسه الزكية :
إن الشهيد الأول طرح في رسالته الفقهية اللمعَة فكرة نيابة الفقيه عن الإمام الغائب (عجل الله فرجه )، حيث ذكر فيها ولأول مرة عبارة (نائب الإمام)، ولعله أول فقيه، من فقهاء الإمامية ممن يصرح بولاية الفقيه. وفي هذا المجال، تشير بعض المعطيات التاريخية إلى أن الشهيد قد باشر بتطبيق هذه الفكرة، حيث شرع العمل في المناطق والمدن المجاورة لمنطقته الجبلية بعيداً عن أعين السلطة في دمشق، وعين – من أجل ذلك - له نواباً على المناطق وبعض المدن كطرابلس وغيرها.
لقد بحث المحدثون والفقهاء هذا الموضوع في كتب الحديث والفقه منذ عصر الشيخ المفيد، الذي أشار إلى مبدأ ولاية الفقيه في كتابه «المقنعة» قبل نحو 1050 عاماً ، وتبلور مفهوم ولاية الفقيه النائب عن الإمام المهدي بمرور الزمن، بعد أن أخذ نصيبه من التأصيل ، إلّا أنّ البحوث الفقهية الإستدلالية للشيخ محمد بن مكي الجزيني العاملي المعروف بالشهيد الأول (ت 786ه/ 1384م)، كانت علامة فارقة في هذا المجال، ولا سيما كتابه «اللمعة الدمشقية»، حتى أنّ بعض الفقهاء المعاصرين يعدّه أول من طبّق هذا المبدأ بصورته الشاملة.
لاحظ زين الدين الجبعي العاملي الملقب بالشهيد الثاني والذي قتل سنة 965هـ أن الشهيد الأول رأى لزوم دفع الأخماس إلى نائب الإمام، أي الفقيه الجامع لشرائط الحكم، ويبدو أن هذه العبارة الفقهية استعملت لأول مرة على لسان ابن مكي العاملي من بين الفقهاء .
ويبقى التنويه إلى أن ولاية الفقيه تنقسم لعامة وجزئية وانقسم الفقهاء عبر التاريخ بين العامة والجزئية .
نظرية ولاية الأمة على نفسها
النظرية الفقهية لآية الله الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين قده ( 1936 م - 2001 م ) :
إنّ الدولة التي تقوم على أساس مشروعية ولاية الأمة على نفسها تعتمد الشورى في المسألة السياسية والتنظيمية المتعلقة بالمجتمع السياسي، وهي دولة زمنية، لا يجوز للفقهاء أن يتولوا السلطة فيها، أو أن يكون جميع جسمها وبخاصة مفاصلها وقيادتها مكوّنة من رجال الدين، بل إنّ هذه الدولة يجب أن تدار بحكمة عالية، وأن يتولى قيادتها رجال سياسية مختصون لأن رجال الدين غير مختصين في حقول ممارسة الحكم في الدولة، والحال هذه تصبح الدولة من مناطق (الفراغ التشريعي) المحالة للأمة «فلا مجال لأن يسند بها شخص واحد إذا كان هو الفقيه العادل».
من هنا، فإنّ نظرية الأمة على نفسها تعتبر أن الشريعة أوكلت أمر الأمة إلى الأمة نفسها، في ظل الغيبة الكبرى، وأصبحت ولاية الأمة ليست ملكاً لأحد لا لفقيه أو غير فقيه أو لمجموعة فقهاء، فالأمة «هي ولية نفسها وهي في نطاق الكليات الشرعية في فقه المجتمع والدولة تتولى أمر نفسها وفقاً لمبدأ الشورى الذي يمكن برمجته في نظام ملائم بحسب ظروف كل مجتمع من المجتمعات».
وتنطلق نظرية «ولاية الأمة على نفسها» من أنّ الأصل الأولي، العقلي والنقلي، في قضية السلطة على البشر، من قبل أي شخص كان، هو عدم المشروعية، فلا ولاية لأحد على أحد، ولا ولاية لأحد على جماعة، أو مجتمع، ولا ولاية لجماعة أو مجتمع على أحد، طالما أنّ الولاية الوحيدة الثابتة بحكم العقل والنقل، هي ولاية الله تعالى وحده دون غيره، وفق الفقه الشيعي الإثني عشري.
وعليه فإنّ مشروعية تكوين الدولة الإسلامية، ونصب الحكومة الإسلامية، طبقاً للمباني الفقهية المعروفة عن نظرية ولاية الأمة على نفسها، تؤكّد أنّ الأمة يجب أن تشرّع لنفسها بواسطة الفقهاء، وأهل الخبرة والاختصاص، في كل مجال في حدود حاجاتها التنظيمية في مناطق الفراغ التشريعي، ومنها الشأن الإداري على ضوء الأصل الأول في سلطة الإنسان على الإنسان، وسلطة الإنسان على الطبيعة. فالدولة من حيث انها شأن إداري هي فرع تابع ومقيّد من قبل الأصل الأولي، بمعنى آخر لا يجوز أن تكون متسلطة ومستبدة على الأمة، طالما أنّ الأمة هي التي تشرّع لنفسها في كل مجال تحتاجه تنظيمياً وإدارياً على ضوء الأصل الأولي. «فمنطقة الفراغ التشريعي هنا محكومة بالأصل الأولي، ولا بدّ من الاقتصار في الخروج عنه فيها على القدر المتيقن مما يحتاجه المجتمع. وكل ما يشك في تماسكه، وازدهاره ونموّه، وكل ما يشك في الحاجة إليه فهو محكوم بمقتضى الأصول الأولية من عدم المشروعية».
الدولة الإسلامية يجب أن تكون دولة ديموقراطية تقوم على المشاركة، التي قوامها الشورى، والتمثيل الشعبي، واللامركزية في الإدارة، ووجوب حفظ النظام، ومقدمة الواجب، والأمور الحسبية، وتخضع في الوقت عينه لمقتضيات الأصول الأولية، والأدلة المقيِّدة، منعاً لأي تجاوزات أو بروز نزعات تسلطية إطلاقية للحاكم. إذ كلّما كانت السلطة الحكومية السياسية، والتنظيمية والإدارية وغيرها، أقرب إلى ممارسة الإنسان لسلطته الذاتية على نفسه، كانت أقرب إلى الأصل الأولي، وكانت متيقّنة المشروعية من حيث دخولها في دليل تقييد الأصل الأوّلي.
ولمّا كان الأصل الأولي عند الشيعة في قضية بناء الدولة الإسلامية لا يجيز مشروعية تسلط إنسان على إنسان، فإنّ هذه الدولة حتى ترقى إلى مرتبة الأصل الأولي، لا بدّ من أن تنتهج خيار الديموقراطية في انتخاب الموظفين والمسؤولين الإداريين من طريق (مجالس الشورى) المنتخبة، أو بواسطة السكان بصورة مباشرة، باعتبار أنّ هذه الطريقة الديموقراطية هي أقرب «إلى ما يقتضيه الأصل الأولي في باب السلطة، وأقرب إلى دليل التقييد مما إذا مارست الحكومة سلطتها في تعيين المسؤولين والموظفين الإداريين في معزل عن رأي الناس واختيارهم، فإن هذا أبعد مما يقتضيه الأصل الأولي، وقد لا يكون داخلاً في التقييد. أمّا بعده مما يقتضيه الأصل الأولي فمن حيث أنّ الحكومة تمارس سيادتها وسلطتها في إنشاء وفرض سلطة جديدة على الناس، وتعيين متسلط عليهم بغير اختيار منهم .
-----------------------------------
- من كتاب معالم وآثار الشهيد الأول محمد بن مكي (قده)
تأليف وتحقيق : هادي الشيخ محمد جواد شمس الدين .
شبكة آل شمس الدين الثقافية
2024م - 1445 هـ