الصفحة ال 12 و 13 من مخطوطة مختصر نسيم السحر للشيخ محمد بن علي الوحيد البتديني التي إختصرها عن الأصل الشيخ شرف الدين محمد مكّي بن محمد العاملي (من أحفاد الشريف الشهيد الأول) كان حيّاً سنة (1186 للهجرة) وقد ذكر فيها أن للشهيد قدس الله نفسه الزكية مثوىً في دمشق :
فاجتمع حطب كثير وأضرموه بالنار وشبّهوا للناس أنهم أحرقوه بالنار إطفاءً للكرامة التي صارت له أوّلاً ولمّا أضرموا له ناراً عظيمة قد كانوا وضعوها في مكان ، ودفنوه في عصرية يوم الخميس تاسع جمادى الأولى سنة [786] هـ .
« ولمَا فعلوا به ما ذكر لم يكن بأمر برقوق ولا أخبر بقتله قبل لكن قد نقل الثقات من أهل القدس والخليل أنّ اليوم الذي قتل فيه الشهيد شمس الدين محمد بن مكي بينما بيدمر في جلسةٍ بالقدس الشريف وعنده جمع غفير في ديوانه قرب ألف رجل ونيّف إذ قد سقط بين يديه ورقة بسرعة ولها دويٌ حال سقوطها فتعحّب الجماعة وبادروا إلى النظر فيها فإذآ فيها: ( واهاً ثم واهاً لقومٍ أمروا أو باشروا أو استحسنوا سفك دم شمس الدين وويلاً ثم ويلاً على فرقة إرتكبت قتل محمد بن مكي البرّ الأمين وبعداً وسحقاً لطائفةٍ هذه طريقتهم وجرى على ذلك سمتهم )، فتعجّب والقوم من ذلك ، فركب سريعاً مسافراً إلى الشام قائلاً : « لعل ابن مكي ما قد وقع به قد ظّْنَ أنّه بأمري أو بعلمي» فلما دخل الشام فاتفق أنّه قد مر على المكان الذي قتل فيه الشيخ شمس الدين محمّد بن مكّي فحينئذٍ قد عثر به جواده وقد سقط على وجهه مغشيّاً عليه ثم أفاق فتشاءم وتطيّر من ذلك الحصان فقيل له: « إنّ الفاضل البدل المولى الشريف شمس الدين محمّد بن مكّي قد قتل به وفعل به ما فعل في هذا المكان ».
فقتل من قد قتل وغضب على من قد غضب عليه وقد ضرب من قد ضربه منهم وصاروا في أقبح الحالات فكما تدين تدان فسبحان الملك الديان فلحوم العلماء مسمومة وعواقب الظلم وخيمة مذمومة.
وبقيت الندامة والحسرة على أهل الشام وعلى الذين رضوا وسعوا من أولئك القوم اللئام حتّى قد وقع عليهم الخسران والمضرات وأنواع المشقات ما لو ذكرتها لاجتمع كراريس ولم يمكن شرحها في القراطيس ثم أمر بيدمر بأن يُبنى عليه قبّة عظيمة ويكون مزاراً مشهوراً وبالخير يكون دائمأ مذكوراً فبّنِي عليه قبّة .
وعلى حاشية الصفحة لليمين كتب : « قد نقل عن الثقات أن من مر في ذلك المكان لم تقضى له حاجة ذلك اليوم قط ، والآن لا يعلم هذا المكان إلا الخواص من الشيعة أنه المكان الذي قتل فيه الشهيد ..» .
وفي كتاب حياة الإمام الشهيد الأوّل لمحمد رضا شمس الدين / طبعة أولى النجف ، ص ٦ :
" إنه لم يعرف وجود قبر للشهيد ؛ لأنه أُحرق جسده وذري في الهواء ، وقيل: «إنَّه جُمِعَ رفاته بعد الإحراق ودفن بالشام ». ، وقد أخبرني بعض أدباء النجف المعروفين أنه شاهد قبره وعليه اسمه في الشام ولبعدنا عنها الآن لم يَتَيَسَّر لنا البحث عن ذلك " .
أقول : ذكر على إحدى صفحات كتاب البيان في الفقه للشهيد الأول وهي بخط أحد كبار علماء جبل عامل في تلك الحقبة ( حسين بن علي بن الحسام العاملي العيناثي ) مكان قتل الشهيد الأول قدس الله نفسه الزكية : « قتل المصنّف رحمه الله بدمشق عجّل الله خرابها , برحبة القلعة مما يلي سوق الخيل , ضحى يوم الخميس تاسع شهر جمادى الأول وتم معلّقاً هناك إلى قريب العصر ثم نزّل وأحرق , وذلك سنة ست وثمانين وسبع مائة أتمّها الله وأن ينتقم له ممن ظلمه , ويعجّل الله فرج آل محمد عليهم السلام » ، هذا النصّ يحدّد بوضوح موضع الشهادة، برحبة القلعة مما يلي سوق الخيل، وهو تعيين مكانيّ دقيق له دلالته البالغة. فسوق الخيل – والمكان لا يزال ليوم الناس هذا – كان من أشهر أسواق دمشق، أنشئ في عهد الأيوبيين، ويقع بجوار قلعة دمشق من جهتها الغربية، في رحبة القلعة ومركزها وانطلاقاً من هذا التحديد، فإن البحث عن مثوى الشهيد الأول قدّس الله سره يبدأ من هنا: من محيط القلعة وما يجاورها من الأسواق والأحياء التاريخية. فهذا المكان لم يكن مسرح استشهاده فحسب، بل يمثل رمزاً لمركز السلطة والمدينة في آن، حيث تلاقت المأساة مع التاريخ، وتحوّلت القلعة من موضع حكمٍ إلى شاهدٍ على فاجعة علمٍ وشهادة .
إنّ استحضار هذا النصّ وما سبقه من مخطوطة مختصر نسيم السحر ، يفتح الباب أمام إعادة تتبّع أثر الشهيد في جغرافيا دمشق القديمة، واستنطاق حجارتها وتاريخها ، علّها تبوح بما أخفته القرون عن موضع الجسد المطهر .
فالشهيد شمس الدين محمد بن مكي قدس الله نفسه الزكية قتل ضحى يوم الخميس التاسع من جمادى الأولى 786 هـ ودفن عصرية نفس اليوم بعد القتل والصلب والحرق ، لله در هذا الشهيد العظيم قتل ثم صلب ثم أحرق ثم دفن في غربة ، فسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً .
- من كتاب معالم وآثار الشهيد الأول محمد بن مكي (قده)
تأليف وتحقيق : هادي الشيخ محمد جواد شمس الدين .
شبكة آل شمس الدين الثقافية
2025م - 1447 هـ

