تعودُ معظمُ رواياتِ الصحيفة السجّادية الكتاب الذي يُعدّ من أثمن تراث أهل البيت عليهم السلام ومعظم النسخ الخطية المتداولة منها اليوم، إلى مخطوطةٍ نفيسةٍ كتبها الشهيد الأول محمد بن مكي الجزيني قدّس الله سره الشريف. وقد شغلت هذه المخطوطة مكانةً مركزية في تاريخ انتقال نصّ الصحيفة، لما امتازت به من ضبطٍ وتحرٍّ ومقابلة دقيقة، جعلت منها العمدة الأساس التي ارتكز عليها العلماء والنسّاخ في القرون اللاحقة.
كان الشهيد الأول قد نسخ الصحيفة مرّتين، في سنتي 772 هـ و776 هـ، معتمدًا في عمله على نسخةٍ أقدم هي نسخة العالم الجليل علي بن أحمد بن سديد (المتوفّى بعد سنة 654 هـ). وهذه النسخة السديديّة لم تكن بدورها أصلًا أوليًا، بل نقلها ابن سديد عن نسخة العالم المعروف ابن سكون (المتوفّى نحو سنة 600 هـ)، وهو أحد أبرز تلامذة الراوي الشهير للصحيفة، بهاء الشرف ، وقد أولى ابن سكون نسخته عناية كبيرة، فقرأها عليه عميد الرؤساء هبة الله بن حامد وهو أيضًا من تلامذة بهاء الشرف وصحّحها وفق الرواية المتلقّاة ، ثم حرص ابن سديد على أن يقابل ما نسخه من نسخة ابن سكون على نسخة ابن إدريس الحلي (المتوفّى سنة 598 هـ)، لتأتي نسخته أكثر ضبطًا وأقرب إلى الروايات المعتمدة.
وبذلك تشكّلت سلسلة متينة من النقل العلمي المتقَن:
من ابن إدريس إلى ابن سكون إلى ابن سديد إلى الشهيد الأول .
وهي سلسلة تعدّ من أهم المسارات النصية التي صان الله بها كتاب الصحيفة السجّادية من التحريف والضياع.
ومع مرور الزمن، أصبحت مخطوطة الشهيد الأول مرجعًا أساسًا للمخطوطات اللاحقة، واعتمدها كبار العلماء في استنساخهم ، فقد قام الشهيد الثاني زين الدين العاملي (ت 965 هـ) بنسخ نسخة عنها، كما نسخ عنها أيضًا العالم الجليل شمس الدين الجبعي (ت 886 هـ) وشقيقه العالم الزاهد إبراهيم الكفعمي. وقد اكتسبت نسخة شمس الدين الجبعي على وجه الخصوص أهميةً خاصة، لأنها كانت النسخة التي انتقلت عبر العائلة البهائية، إذ حملها الشيخ البهائي ووالده إلى أصفهان لاحقًا، فحُفظت في بيئةٍ علميةٍ حافلة بالبحث والتحقيق، وأصبحت من أمهات نسخ الصحيفة.
وتروي المصادر أن محمد تقي المجلسي والد العلامة المجلسي تعرّف على هذه المخطوطة الجبعية من خلال رؤيا رآها في صباه، فقادته تلك الرؤيا إلى الاهتمام بالنسخة اهتمامًا بالغًا ، فقام بنسخها بنفسه، ثم قابلها على نسخة الشيخ البهائي، وبذل جهدًا علميًا كبيرًا في تصحيحها ومقابلتها وإزالة ما وقع فيها من اختلافات أو اضطراب، حتى أصبحت نسخته واحدة من النسخ المعتبرة التي اعتمد عليها العلماء.
وبعده جاء المجلسي الثاني، صاحب موسوعة «بحار الأنوار»، فحصل على نسخة ابن إدريس القديمة، وهي إحدى أقدم الشواهد النصية في سلسلة نقل الصحيفة، فقابل النسخة التي بين يديه على تلك النسخة، وبذلك اكتملت دائرة المقابلة بين القديم والحديث، وتوثّق النص توثّقًا لم يتوفر لغيره من كتب الأدعية.
هذه الجهود المتتابعة عبر القرون جعلت معظم النسخ المتداولة اليوم من الصحيفة السجّادية تعود في أصلها إلى مخطوطة الجبعي، التي هي بدورها نسخٌ دقيقة عن مخطوطة الشهيد الأول، وذلك من خلال العمل الدقيق الذي قام به المجلسي الأول والمجلسي الثاني. ولحسن الحظ، فقد بقيت محفوظة إلى يومنا هذا كلّ من مخطوطة الشهيد الأول (نسخة سنة 772 هـ)، وكذلك نسخة شمس الدين الجبعي .
وبذلك يتبيّن أن سيرة انتقال الصحيفة السجّادية ليست مجرد انتقال مادي للمخطوطات، بل هي مسار علمي متواصل شاركت فيه أجيال من عظام العلماء، من القرن السادس حتى القرن الحادي عشر الهجري، مما أضفى على نصّ الصحيفة صلابةً وثباتًا وموثوقيةً قلّ أن تتوافر في غيرها من النصوص .
- من كتاب معالم وآثار الشهيد الأول محمد بن مكي (قده)
تأليف وتحقيق : هادي الشيخ محمد جواد شمس الدين .
شبكة آل شمس الدين الثقافية
2025م - 1447 هـ


